1 قراءة دقيقة



عفرين بمجهر القانون :
جرائم التطهير العرقي و الإبادة الجماعية
المحامي عماد الدين شيخ حسن

لا شكّ في أنهما مفهومان ليسا بغريبين عن مسمع القارئ الكريم ، و نقصد هنا مفهومي التطهير العرقي و الإبادة الجماعية ، إلا أنّ الفهم القانوني الدقيق و الصحيح لمدلوليهما أو لماهية كلّ منهما قد يعتريه القصور لدى البعض ، أو بعبارةٍ أدق قد نجد لديهم نوعاً من الخلط أو المزج بينهما و الإعتقاد بأن كليهما يحملان المعنى أو المدلول ذاته نتيجة التشابه الكبير بينهما ، و هذا في الحقيقة تصوّرٌ خاطئ و غير دقيق ، و يستوجب الحذر و الإنتباه و لا سيما من جانب القانونيّ و صاحب الأختصاص .
لذلك رأينا أنه بإستطاعتنا عبر نافذة التقييم القانوني للأوضاع في عفرين أو بالتحديد عبر تناول جانبٍ من الجرائم و الانتهاكات التي تُرتكب فيها منح القارئ و المهتم تصوّراً واضحاً عن كلا المفهومين .
و لعلّ الأنسب لنا للخوض في هذا الطرح هو البدء بالتساؤل الآتي:
هل هناك ثمّة جرائم تطهير عرقي و جرائم ابادة جماعية كجرائم دولية حسب القانون الدولي ترتكبها تركيا و الفصائل المسلحة التابعة لها في عفرين ؟
بالتأكيد تستدعي الإجابة على هذا التساؤل إدراكنا أولاً لما ورد في القانون الدولي بشأن هذين المفهومين و معرض و مناسبات تطبيقهما ، و من ثم إدراك و معرفة ما يجري في عفرين ثانيا و مدى توافق و تطابق المفهومين او احدهما مع ذلك .

بدايةً و في ضوء غياب تعريف متفق عليه لدى الفقه القانوني للجريمة الدولية يمكننا تعريفها بأنها : سلوك أو فعل أو إمتناع عن سلوك أو فعل من قبل شخص أو أشخاص يكون من شأنه مخالفة قواعد القانون الدولي و تهديد السلم و الأمن الدوليين أو من شأنه ان يكون عدواناً على مصلحة دولية أساسية يحميها القانون الدولي ، مع توافر القصد الجرمي طبعاً .
و لعلّ أبرز تصنيفات و فئات الجرائم الدولية في القانون الدولي هي تلك نصت عليها المادة الخامسة من نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية ١٩٩٨ . وهي :
1-جرائم الحرب
2-جرائم إبادة الجنس أو الإبادة الجماعية
3-الجرائم ضد الإنسانية
4-جرائم العدوان
و تبعاً لذاك التصنيف يُثار التساؤل الآتي:
أين جرائم التطهير العرقي من ذلك التصنيف و أين موقعها منه ؟
في الحقيقة...أنّ القانون الدولي إن كان قد اعترف و أقر بالإبادة الجماعية كجريمة مستقلة و أفرد لها معاهدات و اتفاقيات تنظمها كإتفاقية منع جرائم ابادة الجنس او الابادة الجماعية ١٩٤٨ ، إلا أنه بالمقابل لم يعترف ولم يقرّ بالتطهير العرقي كجريمة مستقلة و محددة و لا نجد أي معاهدات او اتفاقيات تنظمها كجريمة مستقلة . مع العلم أن تقارير لجان التحقيق و اللجان الأممية مراراً جاءت على ذكر المصطلح أي مصطلح التطهير العرقي كالتقارير الأممية التي صدرت اثناء الصراع في يوغسلافيا .
و بالتالي فالتطهير العرقي يمكن في حال ارتكابه أن يوصف و يصنف كجريمة ضد الإنسانية أو قد يدخل في اختصاص جرائم الحرب .
و آن لنا الآن أن نتعرف على المقصود بكلا المفهومين، التطهير العرقي و الابادة الجماعية .

التطهير العرقي أو الاثني : حسب التعريف السائد له هو محاولة خلق حيز جغرافي متجانس عرقيًا بإخلائه من مجموعة عرقية او اثنية او دينية معينة باستخدام القوة المسلحة، أو التخويف، أو الترحيل القسري، أو الاضطهاد، أو طمس الخصوصية الثقافية واللغوية والإثنية، عبر القضاء عليها نهائيا أو تذويبها في المحيط الإثني الذي يُراد له أن يسود.
لا يستهدف التطهير العرقي المجتمعات فحسب، بل يمسّ أيضًا كل ما تؤمن به المجموعة المُهجّرة من معتقدات ومقدسات، ويجبرها على التخلص من جوهر خصوصيتها، بما يتضمنه الدين واللغة والعادات والتقاليد والمعتقدات الفكرية .
الإبادة الجماعية : عرّفتها المادة الثانية من اتفاقية 1948 الخاصة بمنع جريمة الإبادة الجماعية.
وتنص تلك المادة على أن الإبادة الجماعية تشمل جميع الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو عرقية أو عنصرية أو دينية، بصفتها تلك:
(أ) قتل أعضاء من جماعة ما.
(ب) أو إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء منها.
(ج) أو إخضاعها، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا.
(د) فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال.
(هـ) نقل أطفال من جماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
وقد تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة تلك الاتفاقية أعلاه في 9 ديسمبر/كانون الأول 1948، ودخلت حيز التنفيذ في الـ12 من يناير/كانون الثاني 1951.
من خلال التعريفين تتوضح أمامنا العديد من النقاط عن المفهومين :
أولاها و أبرزها أننا نلاحظ أن الشدة في استخدام الأساليب القسرية من قبل جماعة ما ضد جماعة اخرى دينية او اثنية او عرقية بقصد إبعادهم قسرياُ عن نطاق جغرافي ما إن بلغت ذروتها أو بلغت حدّا من القتل فإنها تنتقل من مرحلة وصفها و اعتبارها جرائم تطهير عرقي أو جرائم ضد الإنسانية الى جرائم إبادة جماعية .
يقودنا ذلك إلى إستنتاجٍ مفاده أنٍ الإبادة الجماعية هو الوضع أو هي المرحلة التي تبلغ فيها خطورة و جسامة الجريمة درجة لم تعد تتناسب مع الاكتفاء بوصفها جريمة تطهير عرقي أو جريمة ضد الانسانية ، لهذا السبب أفرد القانون الدولي لها تصنيفاً خاصاً و مستقلاً لأهميتها و خطورتها ،ولما لها من عواقب قانونية خطيرة . و لعلّ هذا أيضاً هو السبب الذي يدفع المجتمع الدولي إلى التريث كثيرا ان صح التعبير قبل اطلاق وصف الإبادة على جريمة دولية ما ، و هذا ما حصل مثالاً عندما أدانت الهجرة الواسعة النطاق لأقلية الروهينغا من ميانمار الى بورما على انها تطهير عرقي رغم المطالبات الكثيرة للمنظمات غير الحكومية و الوكالات على انها جرائم ابادة جماعية .
من ناحية اخرى وجب التذكير و التوضيح أيضاً عن إختلاف الغاية لدى كل مفهوم ، فالتطهير العرقي غايته التهجير و استبدال جماعة عرقية او اثنية او دينية بجماعة اخرى في بقعة جغرافية ما ، في المقابل نجد ان الغاية من الابادة الجماعية هو التدمير الكلي او الجزئي لجماعة ما ، و قد يستعمل كل من التدمير و الابادة اسلوب الآخر في الوصول الي الهدف و لكن ليس بالضرورة ، فليس بالضرورة تحقيق التطهير العرقي و تهجير جماعة من منطقة ما باسلوب الابادة الجماعية مثالاً .
مع الإشارة الى أنه لا يجب أن نفهم مما سبق أن التطهير العرقي دون الخطورة ولا ننتقص من حجم آثاره الكارثية .

بعد هذا القدر الموجز من تناول كلا المفهومين باتت الركيزة مهيئة الى حدِّ ما بإعتقادنا للإنتقال الى مجريات و حقيقة الأوضاع و الوقائع في عفرين للإجابة على التساؤل أعلاه و لا سيما بأن المشهد في عفرين بالنسبة لما يُرتكب من جرائم و انتهاكات هي على قدرٍ كبير من الوضوح .
في واقع الأمر أن تركيا و الفصائل المسلحة التابعة لها منذ أن سيطرت على كامل عفرين و احتلتها بتاريخ ١٨/٣/٢٠١٨ و حتى منذ بدء حملتها العسكرية عليها ، وهي تمارس جملة من الجرائم الدولية ما زالت مستمرة .
و نستطيع القول سنداً لدرايتنا القانونية و من خلال القدرة على توخّي الدقة في تفسير ما ورد في بنود و مواد المعاهدات و الاتفاقيات الدولية و غيرها من جهة و من خلال ربطها و إسقاطها على الأحداث في عفرين من جهةٍ ثانية ، نستطيع أن نصل الى يقين بأن تركيا و الفصائل ترتكب التصنيفات الأربع جميعها لجرائم القانون الدولي المشار اليها أعلاه موضوع المادة الخامسة من نظام روما الأساسي . أي ما تقوم به في عفرين تشكّل جرائم حرب و ابادة جماعية و عدوان وجرائم ضدّ الإنسانية و ضمنها التطهير العرقي .
و نكتفي بتسليط بعض الضوء و بيان ما يرتكب من ابادة جماعية و تطهير عرقي كونهما موضوعا بحثنا هذا .
كمقدمة و مدخل بسيط لذلك يجب أن نعلم بأن عفرين الواقعة أقصى الشمال الغربي من سوريا و التابعة سياسياً و دولياً لسيادة هذه الأخيرة تضمّ تركيبة سكانيّة ذات خصوصية كوردية تكاد تكون خالصة بنسبة تفوق ٩٥% أغلبهم من المسلمين مع وجود أكثر من خمسين ألف نسمة من الكورد ينتمون الى الديانة الإيزيدية .و تلك التركيبة السكانية لها ثقافتها و لغتها و عاداتها و تقاليدها و مقدساتها و معتقداتها و باقي خصوصياتها المميزة عن محيطها وعن من هم خارج حيّزها الجغرافي .
تلك الخصوصية و التميّز للمنطقة لطالما كانت حتى قبل الاحتلال و لزمنٍ طويل هاجساً و مصيبةً بنظر المحيطين بعفرين من الترك و العرب و حكوماتهم ، و بممارساتٍ كثيرة ثابتة الدلائل لا مجال لذكرها أثبتوا بأنهم لا يقبلون بتلك الخصوصية و بذلك الواقع ،
فجاءت الحملة و جاء الإحتلال التركي تدعمها فصائل عربية مسلحة لتؤكد عبر ممارساتها و جرائمها على الأرض أنها تتمة لسلسلة ما كانت تمارسه و لكن هذه المرة بأساليب أكثر شدةّ و قساوةّ و خطورة ، و المفارقة الغريبة بأنها أيضا أكثر علنيةً و فضحاً و دلالةً بالتالي على تواطؤٍ و تخاذل ٍ دولي لا يُبرّر .
فهناك آلاف الصور و الفيديوهات و التوثيقات التي تشير الى سعي مخطط و ممنهج من قبل تركيا و الفصائل و بوسائل جرمية نحو خلق حيّز جغرافي في عفرين خالي من الكورد و الكورد الإيزيديين و إحلال جماعة أو جماعات اخرى بدلأ عنهم . و تتمثل تلك الممارسات على سبيل المثال لا الحصر في قتلهم و اعتقالهم و اختطافهم قسريا و طردهم و تهجيرهم قسريّاً من ممتلكاتهم و الاستيلاء عليها و منعهم من العودة اليها و السطو المسلح على اموالهم و إعدام مصادر الرزق و الخدمات و الأمن و اتباع سياسة الأرض المحروقة بصورة تحضهم و ترغمهم على النزوح .
و لعل مشهد المخيمات التي تضم عشرات الآلاف من سكان عفرين و حال المشرّدين على تخومها لا يمكن إنكاره ان أرادوا إنكار كل الأمور الأخرى و لعل أيضاً توطين عشرات الآلاف من مختلف مناطق سوريا في عفرين أيضا لا يمكن إنكاره .
ما تفسير عشرات الفيديوهات التي يسألون عبرها سكان عفرين و لا سيما الايزيديون منهم عن الصلاة و عدد ركعاتها و الوضوء و الصوم و غيره و ما تفسير محو و إزالة كل أثر و معبدٍ و رمزٍ مقدّس ، و ما تفسير فرض التعليم باللغتين النركية و العربية .
هل بقي ثمّة شكٍ بعد ما أوردناه بأنّ تلك الممارسات ليست بجرائم تطهيرٍ عرقي و جرائم ضدّ الإنسانية . ، لا بل أن الاكتفاء بالإدانة بجرائم التطهير العرقي فيه إجحافً شديد بحقوق المتضررين و المجني عليهم من سكان عفرين ، لأن تلك الممارسات هي في الحقيقة بلغت مبلغ الإبادة الجماعية ، حيث نجد على الأرض تدميراً جزئياً لجماعةٍ بشرية هم الكورد و دينية هم الكورد الايزيديين و ما الغاية من اخضاعهم للواقع المعيشي الذي هم فيه إلا الوصول الى الإبادة و التدمير الكلّي لهم ، بالإضافة الى أنّ نسبة القتل و الأذى الجسدي كافية و وصلت لمرحلة خطيرة تثبت بأن ما يحدث هي جرائم إبادة جنس أو إبادة جماعية .
و لا بدّ من الإشارة هنا الى وجود تقارير لمنظمات غير حكومية تدعم و تثبت ممارسة تلك الأساليب كتقرير منظمة العفو الدولية الصادر بتاريخ ٢/٨/٢٠١٨ وتقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) بتاريخ ١٤/٦/٢٠١٨ .
لا يسعنا بعد تناولنا الموجز لجانب و موضوع قانوني هام من مواضيع و اهتمامات القانون الدولي إلا أن ندعو المجتمع الدولي بمؤسساته المختلفة أن تعي حساسية و خطورة الأوضاع في عفرين و أن تنهض بمسؤولياتها الكاملة إزاء ذلك .
تم بعون الله
مركز ليكولين للدراسات و الأبحاث القانونية .
ألمانيا...٩/١٠/٢٠١٨




تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.